مقالات

مختارات من صحيفة النهار

كتبت النهار

يرى اللبنانيون بأعينهم المعركة الدائرة بين “الشعبين” السنّي والمسيحي في لبنان على بلدية العاصمة بيروت، إذ إن غالبية سكانها تنتمي إلى الإسلام بمذهبيه السني والشيعي. علماً أن الفرق في العدد بين المذهبين كبير وهو لمصلحة السنّة، رغم أن التمدّد الشيعي داخل بيروت خلال عقود ماضية كثيرة كان كبيراً، وأدّى بمرور الوقت إلى حلول الطابع الشيعي في مناطق معيّنة منها معروفة تقليدياً بسنّيتها، وإلى تحويلها مناطق شيعية بالكامل. لذلك أسباب كثيرة منها عدم شمول الإنماء والتنمية المناطق الواقعة خارج العاصمة، ولا سيما الواقعة منها على حدود لبنان مع فلسطين سابقاً وإسرائيل حالياً، كما على الحدود مع سوريا السنّية سابقاً ثم العلوية والحالية ذات الطابع السني

والواقع أن إمساك النظام الجديد فيها بمناطقها كلها لا يزال رهن أطماع إسرائيل وتركيا، ورهن قلق الأقليات فيها، ومنهم أكرادها الذين حُرم كثيرون منهم، منذ أيام الراحل الرئيس حافظ الأسد، الجنسية السورية، وبينهم مسيحيوها الذين لم يُضطهدوا أيام حكم آل الأسد، بل مارسوا حريتهم الاجتماعية وحتى “البيزنسية” بكل ثقة، لكنهم لم يمتلكوا حرية ممارسةٍ كاملةٍ لمواطنتهم. طبعاً لا يمكن إنكار حقيقة مهمة هي أن التمدّد الشيعي داخل العاصمة بيروت وإقامة ضاحية تُضاهي مساحةً وعدداً في جنوبها وتوجّهه نحو العاصمة بيروت ما كان ليحصل لولا حلم الأب الأسد الراحل بجعل لبنان ساحة خلفية لسوريا، ولولا تحالف إيران الإسلامية معه الذي فتح أبواب التمدّد الشيعي حيث أمكن. كذلك فتح أبواب تمكين الأقليات الشيعية في المناطق غير الشيعية ولا سيما المسيحية وغيرها بوسائل متنوّعة، فصارت، إذا جاز التعبير، “قواعد” الشعب والعسكر والسلاح، والانتماء إلى أكبر حزبين في تاريخ شيعة لبنان هما حركة “أمل” و”حزب الله” اللبنانيان.

أثّر ذلك كله على الطابع السنّي العام في العاصمة، لكن أكثرية أبنائها بقيت سنّية. أما المسيحيون فيها فموجودون منذ قديم الزمان. لكنهم بقوا أقلية فيها. وبعد الاستقلال، وبمرور الوقت، ازداد عددهم جرّاء الهجرة إلى المدن من الجبل المسيحي. لكنهم لم يتساووا في العدد يوماً مع مسلمي العاصمة. ثم أتت حروب 1975 – 1990 وسيطرت سوريا الأسد على لبنان بين 1990 و2005 وبعدها سيطرت إيران الإسلامية بواسطة حلفائها الشيعة على بيروت، بل على لبنان كله.

ليس هذا الكلام لنكء جروح مفتوحة من زمان، بل لشرح وضع العاصمة في ضوء الإنتخابات البلدية والاختيارية التي ستُجرى فيها قريباً. فالمسيحيون، بعد ضمورهم الديموغرافي في العاصمة، صاروا متأكدين من أن تمثيلهم في بلدية بيروت سيكون صغيراً وفقاً لحجمهم. فطالبوا ولا يزالون يطالبون بتمثيل متساوٍ مع المسلمين في هذه البلدية. ولذلك طريقان لا بد من سلوك أحدهما لتحقيق المناصفة: الأول سن قانون في مجلس النواب يجعل تمثيل العاصمة بلدياً مناصفةً بين المسيحيين والمسلمين. أما الثاني فهو توافق الزعامات الإسلامية وفي مقدمها السنية على المناصفة البلدية بين أتباع الديانتين، وقدرتها على إقناع ناخبيها بذلك

الرئيس الشهيد رفيق الحريري فعل هذا الأمر بنجاح لأن شعبيته كانت طاغية عند المسلمين والمسيحيين. لكن ليس هناك زعيم يوازن الحريري اليوم للإقدام على ذلك. لذا يتجه عدد من النواب إلى سن قانون ينص على المناصفة في التمثيل البلدي المسيحي والمسلم في بيروت. وهناك رفض لذلك من كثيرين ربما لعدم شرعية الاقتراح. لكنّ هناك حلا أفضل ولا يكرّس بالنص طائفية معيّنة تُثير لاحقاً ردود فعل سلبية، هو ترك الحرية لأبناء بيروت وزعمائها في اختيار مجلس بلدية العاصمة. فإذا كان التمثيل المسيحي موازياً فيها للتمثيل المسلم فهذ جيد، ولكن إذا لم يكن كذلك، وتلافياً للتسبّب بأزمة تُضاف إلى أزمات الخلاف المسيحي – المسلم في لبنان، يمكن إعطاء صلاحية محافظ العاصمة بيروت، وهو مسيحي، للبلدية في بيروت، إذ إنه يتحكّم في قرارات مجلس بلدية العاصمة، وهو صاحب القرار والتوقيع النهائي فيها.

وبذلك تصبح هناك مشكلتان في نظر المسلمين: مناصفة مسيحية – مسلمة في البلدية وقرار محافظ بيروت المسيحي الذي يشكّل السلطة التنفيذية للمجلس البلدي. لذا قد يكون من الأفضل إبقاء محافظ العاصمة مسيحياً ولكن بعد نزع صلاحياته المتعلقة ببلدية بيروت وإعادتها إليها. عندها ربما تستقيم المناصفة أو لا تعود مهمة. علماً أن لا لزوم لها لأنها لم تضمن للمسيحيين صوتاً وازناً في المجلس البلدي للعاصمة يوم احترم الناخبون المناصفة بين المسيحيين والمسلمين فيه. فالنصف المسيحي كان دائماً يراعي النصف المسلم، أي أنه “يمشّي” قراراته ومصالحه.

هناك حل آخر هو جعل محافظ العاصمة مسلماً وإعطاء المسيحيين نصف عدد أعضاء البلدية. إلى هذه المشكلة، تعيش البلاد اليوم مشكلة أخرى. فهناك اتهام لجمعية “كلنا إرادة” بالسيطرة على الحكومة وبأنها تؤسّس للإمساك بالدولة مستقبلاً. كاتب “الموقف هذا النهار” لا يعرف هذه الجمعية ولا أعضاءها، وربما لا يثق كثيراً ببعضهم. لكنه يستغرب اتهامهم بالعمل لمصالح أثرياء أجانب موالين لإسرائيل أو شيء من ذلك، وهو اتهام عابر للطوائف والمذاهب. فهل المقصود منه إبعاد الكفاءات من كل الطوائف والمذاهب عن الدولة، ولاحقاً عن الإمساك بها، كي تستمر المجموعات الطائفية والمذهبية في السيطرة على لبنان وحكمه، أياً تكن صيغته، مع تفضيل الفيديرالية أو التقسيم المقنّع وحتى الرسمي؟

في أي حال، لا ثقة عند قسم من اللبنانيين بـ”كلنا إرادة” لأنهم لا يعرفونها، ولأنها لم تبذل جهداً لكي يعرفوها، ولا ثقة لهم بأبطال الطوائف والمذاهب. وقد نسوا جميعاً اتفاق الطائف الذي نصّ صراحة على إلغاء الطائفية السياسية بصيغة مجلسي نواب علماني وشيوخ طائفي. وهذا مدخل إلى تسوية، علماً أن إنجازها يحتاج إلى وقت طويل وإلى شعب لا إلى قبائل ولا إلى زعامات إقطاعية وأخرى مذهبية وطائفية متشددة، وعودة إلى تاريخ لبنان تؤكد مسؤولية هؤلاء عن خرابه.

زر الذهاب إلى الأعلى